خطبة الجمعة القادمة للدكتور محمد حرز
صفاتُ المؤمنينَ في القرآنِ
الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ الأنفال:2، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وليُّ الصالحينَ وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، القائلُ كما في حديثِ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ“رواه البخاري ؛ فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ. أما بعدّ……فأوصيكُم ونفسي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران :102)
أولاً: الإيمانُ ليسَ بالتمنيِ .
أيُّها السادةُ : الإيمانُ ليسَ بالتمنيِ ولكنّ الإيمانَ ما وقرَ في القلبِ وصدقَهُ العملُ ، الإيمانُ ليس كلمةً ترددُهُا الألسنةُ فحسب أنا مؤمنٌ أنا موحدٌ إنّما الإيمانُ قولٌ باللسانِ وتصديقٌ بالجنانِ وعملٌ بالجوارحِ والأركانِ إنّه الإيمانُ يا سادةٌ الذي جعلَ الأعرابيُّ يقولُ لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم :إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى{ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ } وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ مقاتلون) رواه البخاري إنّه الإيمانُ أعظمُ نعمةٍ على الإنسان، لا تُدانِيها نعمةٌ، ولا تُوازِيهَا منَّةٌ. بهِ تتحقَّقُ سعادةُ الدنيا والآخرة.ِ قال ربُّنَا ((بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:1 ) إنّه نورٌ يحيي القلوبَ من المماتِ ونورٌ يضئُ الحياةَ من الظلامِ، إنّه نورُ الإيمانِ، قال جلّ وعلا: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(( الأنعام: 122)
الإيمانُ كما في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ عمرَ بن الخطابِ رضى اللهُ عنه قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم:“ الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ“، الإيمانُ كما في حديث ِأَبِى هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم): (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) (صحيح مسلم) والإيمانُ باللهِ (عزّ وجلّ) مرتبطٌ بالعملِ الصالحِ قرينًا ،لا ينفكُّ أحدهُمَا عن الآخرِ، كما جاء في كتابِ ربِّنَا ،{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82] ، وفي قولِهِ عزّ وجلّ : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس: 9] ، وقولِهِ : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} ( الكهف: 107 )
إِيمَانُنَا عَقْدٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلْ *** يَزِيدُهُ البِرُّ وَيَنْقُصْهُ الزَّلَلْ
ثانيًا: مِن أبرزِ صفاتِ المؤمنينَ في كتابِ اللهِ .
أيُّها السادةُ : صفاتُ المؤمنينَ كثيرةٌ وعديدةٌ لا يتسعُ الوقتُ لذكرِهَا وكيف لا؟ ولقد ذكرَ الحقُّ سبحانَهُ وتعالى في كتابهِ الحكيمِ صفاتٍ كثيرةً لعبادِهِ المؤمنينَ ، منها: كمالُ الخشيةِ للهِ تعالى ، إذ أنّ الخشيةَ مِن اللهِ تعالى مِن أعلى المقاماتِ وأجلِّهَا ، قال ربُّنَا :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2- 4]. والوجلُ هو كمالُ الخشيةِ للهِ تعالى ، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون:57 -60] سَألتْ عائشةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذه الآيةِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}. قالت : أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ قال: لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، أولئك الذين يسارِعونَ في الخيراتِ وهم لها سابِقونَ)) (رواه الترمذي)
ومِن صفاتِ المؤمنينَ التوكلُ على اللهِ (عزّ وجلّ) ، والتوكلُ هو اعتمادُ القلبِ على اللهِ (عزّ وجلّ) في استجلابِ المصالحِ ودفعِ المضارِّ ، وتفويضُ الأمورِ كلِّهَا إليه، مع اعتقادٍ أنّه لا يعطي ولا يمنعُ ، ولا يضرُّ ولا ينفعُ سواهُ سبحانَهُ وتعالى ، فالمؤمنُ يتوكلُ على اللهِ (عزّ وجلّ) ويأخذُ بالأسبابِ المؤديةِ لإتمامِ الأعمالِ دونَ الاعتمادِ عليها ، فالأخذُ بالأسبابِ لا يُنافي التوكلَ, فعن عُمَرَ (رضي اللهُ عنه) قَالَ : سمعتُ رَسُولَ اللهِ (صلى اللهِ عليه وسلم) يقولُ: ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً) (رواه الترمذي) فمَن وثقَ في اللهِ نجَّاهُ , ومَن توكلَ عليه كفَاهُ , ومَن فوّضَ إليه الأمرَ هدَاهُ , ومَن سألَهَ أعطَاهُ (أليسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ………)) [الزمر:36].
ومِن صفاتِ المؤمنين: المحافظةُ على الصلاةِ والخشوعُ فيها ، قال جلّ وعلَا : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } ، فالصلاةُ هي شعارُ الإسلاِم والصلاةُ عمادُ الدينِ , وجوهرُ الإسلامِ, وهي الفرقانُ بين الكفرِ والإيمانِ , وهي رأسُ القرباتِ والعباداتِ, وهي مصدرُ البرِّ, ومبعثُ الخيرِ, وطهرةٌ للقلبِ من أدرانِ الذنوبِ والمعاصي والآثامِ , فبصلاحِهَا يصلحُ العملُ كلُّه , وبفسادِهَا يفسدُ العملُ كلُّه . ومما يدلُّ على وجوبِ الخشوعِ في الصلاةِ ما رواه أنسُ بنُ مالكٍ (رضي اللّهُ عنه) قال: قال رسولُ اللّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) : (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) ( صحيح البخاري )
ومِن صفاتِ المؤمنينَ : الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ تعالى بمفهومِهِ الأعمِّ، ويشملُ الزكاةَ المفروضةَ وصدقاتِ التطوعِ ، فعن ابنِ عمرَ (رضي اللهُ عنهما) عن النَّبيّ (صلى اللهُ عليه وسلم) قَالَ: (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ) (صحيح البخاري) وعن عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ »رواه مسلم
أيُّها السادةُ: لقد أشارَ القرآنُ الكريمِ إلى صفاتٍ أخرى للمؤمنينَ إضافةً إلى ما ذكرَ ،منها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ : أنَّهُم عن اللغوِ معرضون ، وللأماناتِ والعهودِ راعون ومحافظون ، قال جلّ وعلا عن صفاتِ المؤمنين المفلحين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11] . فبَيّنت الآياتُ أنّ الفلاحَ والفوزَ لمَن اتصفَ بهذه الصفاتِ من خشوعٍ في الصلاةِ ، وإعراضٍ عن اللغوِ ، وإيتاءٍ للزكاةِ ، وحفظٍ للفروجِ عن الحرامِ ، والحفاظِ على الأماناتِ وتأديتِهَا لأصحابِهَا ، والوفاءِ بالعهودِ ، كلُّ ذلك عدَّهُ القرآنُ من صفاتِ المؤمنينَ وأخلاقِهِم.
تعليقات
إرسال تعليق