ما تفسير قوله تعالى {فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} الآية 129 من سورة التوبة
الاجابة هى :
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)}
ولم يقل الحق لرسوله: (إن تولوا وأعرضوا فاعتقد أن حسبك الله) لا، بل أعلنها للناس كافة؛ حتى يسمعوها، ولعل في إعلانك لها ما يلفتهم إلى الحقيقة؛ لأنك إن قلتها؛ فلن تقولها إلا وعندك رصيد إيماني بها، وإن فعل أحدهم شيئاً ضدك؛ فسوف يعاقبه الله.
وحين تعلن: {حَسْبِيَ الله} بعد أن كذبوك، فالأحداث التي سوف تأتي بعد إعلانك {حَسْبِيَ الله} ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح، ولله المثل الأعلى- أنت تقول: (حسبي نصرة فلان)؛ لأنك تثق في قدرة فلان هذا، ولكن القوة في الحياة أغيار، وحين تقول: {حَسْبِيَ الله} فلا إله غيره سبحانه، ولا إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره.
وقل {حَسْبِيَ الله} برصيد {لا إله إِلاَّ هُوَ} و{لا إله} نفي، و{إِلاَّ هُوَ} إثبات، إذن: ففي هذا القول: {لا إله إِلاَّ هُوَ} نفي منطقي مع سلب، وإثبات منطقي مع الإيجاب، وهنا نفي أيِّ ألوهية لغير الله، والاستثناء من ذلك هو الله، ورحم الله شيخنا عبد الرحمن عزام حين ترجم عن محمد إقبال شاعر باكستان الكبير، فقال:
إنَّما التوحيد إيجابٌ وسلبٌ *** فيهما للنفسِ عزمٌ ومضاءُ
إيجاب في {إِلاَّ هُوَ}، وسلب في {لا إله}، فيهما للنفس عزم ومضاء، أي: هما للنفس قطبا الكهرباء، فاسلب الألوهية من غير الله وأثبتها لله.
والناس- كما نعلم- ثلاثة أقسام: قسم ينكر وجود إله للكون مطلقاً، وهم الملاحدة، وقسم ثان يقول: إن هناك الله الذي يوحده المسلمون؛ لكن له شركاء ينفعوننا عند الله. وقسم ثالث يقول بوحدانية الله.
وساعة نقول {لا إله إِلاَّ هُوَ} نكون قد أثبتنا الألوهية لله، وأثبتنا أن لا شريك له، وأثبتنا ألا إله غيره، وسبحانه يقول: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وهذا أمر طبيعي، ويمكن أن نعرفه بالحساب؛ ولذلك جاء ب {حَسْبِيَ} من الحساب. واحسبها فلن تجد إلا الله. وما دام حسبك الله ولا إله إلا هو، فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرته لك، فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي رسولك، الذي أبلغك البلاغ الكامل عن الله، وأن تتوكل عليه سبحانه.
وما دام سبحانه هو حسبك ولا إله إلا هو، والواجب يفرض عليك أن تظل في مَعيَّته سبحانه، ومعيّة الله مرحلتان: الأولى بأخذ الأسباب التي أمدّ بها خلقه، ومعية إيمانك المطلق بأن الأسباب إن عجزت معك، فأنت تلجأ إلى مسبِّب الأسباب الموجود وهو رب الوجود.
وترى- مثلاً- الناس وهي تحتاج إلى المياه؛ لأنها ضرورة للحياة؛ فيذهبون إلى البئر فلا يجدون الماء رغم وجود البئر؛ لأن المياه التي تأتي من جوف الأرض لم تعد تتسرب إليه، ولماذا؟ لأن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الأرض قد نفد، ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء؛ لتجري إلى المسارب تحت الأرض وتعود المياه إلى البئر.
وإذا جفَّت الآبار المحيطة بنا، هل نيأس؟ لا؛ لأن ربنا بيَّن لنا: ارفعوا أيديكم لربكم. إذن: فنحن إذا استنفدنا الأسباب نطلب من المسبب، ولذلك أتحدى أن يستنفد واحد أسباب الله الممدودة إليه، ويلجأ إلى الله فيرده.
إن يد الله ممدودة لنا بالأسباب ولا يصح أن يهمل إنسان ولا يأخذ بالأسباب، ويقول: أنا متوكل على الله، إن على الإنسان أن يأخذ أولاً بالأسباب وأن يستنفدها، وبعد ذلك يقول: ليس لي ملجأ إلا أنت سبحانك، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
والمضطّر: هو من استنفد أسبابه، وليس له إلا الله. لكن أن يقول إنسان: أنا أدعو الله ليل نهار وأسبِّحُه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلاً، ولا يستجيب الله لدعائي. ونقول لمثل هذا القائل: أنت لا تدعو عن اضطرار ولم تأخذ بالأسباب، خذ بالأسباب التي خلقها الله، أولاً، ثم ادْعُ بعد ذلك. ولا تدْعُ إلا إذا استنفدت الأسباب؛ فيجيبك المسبِّب، وبذلك لا تفتن بالأسباب، فحين تمتنع الأسباب؛ تلجأ إلى الله. ولو كانت الأسباب تعطي كلها لفُتِنَ الإنسان بالأسباب، والحق سبحانه يقول: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6-7].
لذلك نجد الحق يبيّن دائماً أن كل الأسباب بيده، فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى، ثم يقترب الزرع من النضج، وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته، أو ينزل سيل يجرفه. إذن: خذ بالأسباب واجعل المسبب دائماً في بالك، وهنا يصح توكلك على الله.
وكثير من الناس يخطئ في فهم كلمة (التوكُّل)، وأقول: إن التوكل يعني أن تأخذ، أولاً، أسباب الله التي خلقها سبحانه في كونه، فإن عَزّت الأسباب ولم تصل إلى نتيجة؛ فاتجه إلى الله، مصداقاً لقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ}.
ونحن ندعو أحياناً عن غير اضطرار ونهمل الأسباب، والمثال تجده في حياتنا حين يقول الابن لأمه: (ادعي لي حتى أنجح) وتجيب الأم الأمية قائلة كلمة بسيطة هي: (ساعد الدعاء بقليل من المذاكرة)، وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الخذ بالأسباب.
إذن: فمعنى التوكل، أن تستنفد الأسباب التي مدَّتها يد الله إليك. فإذا استنفدتها؛ إياك أن تيأس؛ لأن لك ربّاً، وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه.
ومثال آخر: إذا كنت سائراً في الشارع ومعك جنيه واحد مثلاً ثم وقع منك أو سُرق، ولا تملك في البيت أو في البنك مليماً واحداً، هنا تغضب وتحزن، أما إن كان في البيت عشرة جنيهات؛ فنسبة الغضب والحزن ستكون قليلة، وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه؛ فلن تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد.
وهكذا تثق بالمثل عوضاً عن المثل، أفلا تثق بواهب هذا المثل عن عوض المثل؟
إذن: فالتوكل هو أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب. والكسالى هم من يريدون أن يكون التوكل للجوارح وليس القلوب.
تعليقات
إرسال تعليق