اعلان

خطبة تهز القلوب مكتوبة

 خطبة تهز القلوب مكتوبة

(خطبة مؤثرة تبكي لها القلوب). - خطبة الجمعة بعنوان:

"(عِبَر وعِظات بمشاهِد الاحتِضار).....

"، والتي تحدَّث فيها عن حقيقة الدنيا وأنَّها فانِية زائِلة، مُبيِّنًا أنَّ المرءَ في حالِ احتِضارِه وخُروجِ رُوحِه يتيقَّنُ بذلك، ويرَى ما لم يرَه غيرُه مما يُكشَفُ له حينها، كما ذكَّر باغتِنام الصحة والفراغ في الطاعات، وعدم تضيِيعها فيما يندَمُ عليه العبدُ يوم لا ينفع الندم، كما أوردَ بعضَ النماذِج من السلَف الصالح - رضي الله عنهم - في هذه اللحظات العصيبة، ثم بيَّن أهمَّ معالِم العِظة والاعتِبار.

الخطبة الأولى

الحمدُ لله، الحمدُ لله العظيم الجليل، أحمدُه - سبحانه - وأشكُرُه وهو حسبُنا ونِعمَ الوكيل، منَحَ الكثيرَ وأعطَى الجَزيلَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً صادقةً مُخلِصةً هي الذُّخرُ ليوم الرحيل، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُؤيَّد بمُعجِز التنزيل، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه أهلِ الفضل والتبجيل، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ فلزِم الحقَّ واستقامَ على السبيل.

أما بعدُ:

فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسِي بتقوَى الله، فاتَّقُوا الله - رحِمَكم الله -، والزَموا جادَّة الصدق؛ فلا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ، حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا، ولا أشرُّ مِن الكذِب؛ فلا يزالُ الرجلُ يكذِب، ويتحرَّى الكذِب، حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا.

وسلامةُ الصدر مِن نعيم أهل الجنة، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].

ومِن البلاء أن يشتغل العبدُ بالخُصومات والمُشاحنات، فتسامَح - حفظك الله - وتغافَل، وأحسِنِ الظنَّ، ومَن لم تجِد له عُذرًا فقُل: لعل له عُذرًا، ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 34، 35].

معاشِرَ المُسلمين:

مِن أعظم نِعم الله على عبده أن يرزُقه قلبًا حيًّا، فيستذكِرَ ويتنبَّه، ويستحضِر بعضَ الأحوال والمُتغيّرات والتقلُّبات التي تمتلِئُ بها هذه الحياة، والحياةُ كلها عِبَر، وكلها تحوُّلات ومُتغيِّرات، بعضُها أعظمُ من بعضٍ، وبعضُها يُنسِي بعضًا.

غيرَ أنَّ هناك حالةً أو موقفًا قلَّما وقف عنده الإنسان، وإن وقفَ عنده فإنه لا يُعطِيه حقَّه من النظر والتفكير، هذا الموقِفُ يُصوِّرُه الحافظُ ابنُ الجوزيِّ - رحمه الله - حين يقول: "من أظرَف الأشياء إفاقة المُحتضَر عند موتِه".

قال - رحمه الله -: "فإنَّه يتنبَّهُ انتباهًا لا يُوصَف، ويقلَقُ قلقًا لا يُحدُّ، ويتلهَّفُ على زمانِه الماضِي، ويوَدُّ لو تُرِك كي يتدارَك ما فاتَه، ويصدُقَ في توبتِه على مِقدار يقينِه بالموت"، ثم قال - رحمه الله -: "فالعاقلُ مَن مثَّل تلك الساعة أو عمِلَ بمُقتضَى ذلك".

عباد الله:

إنَّ هذا التذكُّر يكُفُّ الهوى، وهذا التمثُّل يبعَثُ على الجِدِّ، ويحفَظُ الوقتَ، ويُصلِحُ العمل، يستذكِرُ حالَه وهو في عافيةٍ سابِغة، وحياةٍ مُمتدة؛ ليتزوَّد من الذكر والشكر وحُسن العبادة.
ساعةُ الاحتِضار - عباد الله - هي الساعةُ التي يكونُ فيها الإنسان بين الموتِ والحياةِ، وهي ساعةٌ إذا جاءَت يعلَمُ الإنسانُ يقينًا أنَّه سيموت؛ فليس في هذه الساعة كذِب، وليس فيها مهرَب، فيُرفَعُ له مِن الحُجُب ما يعرِفُ جَزمًا أنَّ آخرتَه قد جاءَت، ويُكشَفُ عنه غِطاءُ الدنيا، فيرَى شيئًا لم يرَه مِن قبل.
معاشِر الأحِبَّة:
وهذه وقفاتٌ مع هذه الأحوال، ومع أصحابِها حينما ينزِلُ بهم الأجَل، أو حينما يكونُون في حالٍ مِن اليأس والعَجز.
أيها المُسلمون:
الإنسانُ في هذه الدنيا في حالِ الصحة والرخاء والغفلة يكونُ ذا مالٍ أو ذا جاهٍ أو ذا منصِبٍ، فهو حينئذٍ مِلئُ السمع والبصر، وحولَه ما يُحيطُ به مِن حاشيتِه وأتباعِه، يعيشُ آمالًا عِراضًا، وخُططًا واسِعة، فإذا أدرَكَتْه حالةُ الاحتِضار، أو أصابَه حالُ يأسٍ مِن مرضٍ أو حادِثٍ مُقعِدٍ ماذا يكونُ حالُه؟ وما هي مشاعِرُه؟ وما هي أمانِيه؟ وعلى ماذا يتحسَّر؟ وماذا يرجُو؟ قد انفَضَّ الناسُ مِن حوله، وابتعَدَ عنه أربابُ المصالِح والأغراض.
لقد أصبح في حالةٍ أدركَ فيها أنَّ الغِبطة هي في القلب السليم، وصلاح العمل، وحُسن العبادة، والخُلُق الكريم، وصفاء السَّريرة، وحُسن السيرة، والإيثار ونفع الناس، ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 87- 89].
إنَّه في حال الاحتِضار أو حال العجز يتفكَّر ويتأمَّل هل كانت الدنيا تستحِقُّ كل هذا؟ عداوات، وحسدًا، ومُنافِسات، وتقديمَ هذا، وتأخيرَ هذا، وإهمالَ هذا، وتقريبَ هذا، وإعراضًا عن هذا، وغفلةً عن ذاك.
غفلةٌ عن حقوقِ الأهل والأولاد تربيةً وإصلاحًا، بل تقصيرٌ في حقِّ النفسِ صحَّةً وراحةً واستقرارًا، وعبادةً وإحسانًا.
في هذه الحال تنقطِع الآمال، وتتقاصَر التطلُّعات، ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22].
لقد أدرَكَ هذا المُحتضَر، وأدرَكَ هذا العاجز أنَّ الذين قبلَه كانُوا يحرِصُون كما يحرِص، ويسعَون كما يسعَى، ويعملُون في الدنيا عملَه، ويكِدُّون كدَّه، فاختطَفَت المَنُون أرواحَهم، وقطَّعَت الآجالُ أعمالَهم، وفاجعَتهم في أحبابهم.
جمعُوا فكان جمعُهم ميراثًا، وبنَوا فكان بِناؤُهم تُراثًا، يَغفلُون عن الآخرة وهي مُقبِلة، ويُقبِلُون على الدنيا وهي مُدبِرة.
في أحوالِ الاحتِضار مشاهِد شتَّى، ومواقِف مُختلفة، ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ: 54]، ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: 27].
إنَّه في حالِ التذكُّر وحالِ المُحاسَبة يقولُ .. وهل ينفع يومئذٍ المَقُول؟! يقول: لو كنتُ تفكَّرتُ قليلًا في حال الدنيا وحال الآخرة، لعلِمتُ أنَّ في الصلاح وحُسن العمل وحُبِّ الخير للناسِ أسلَمَ الطرُق، وأنجَى المسالِك.
أين ضَجيجُ الجاه؟ وأين جلَبَة الأعوان، وكثرة العلاقات والاتصالات؟ لقد أدرَكَ أنَّ رفعَ الدرجات وسُلَّم الترقيات هي عند الله وحدَه، وأنَّ علوَّ المقام هو في التقرُّب من الله، وإحسان لعبودية والإخلاص، وليس في مراتبِ أهل الدنيا ومناصِبِهم وجاهِهم وأموالِهم.
في هذه الحال تنقطِعُ الآمال، وتكثُر التطلُّعات؛ فمِنهم مَن يقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، ومِنهم مَن يقول: ﴿{رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10]، ومِنهم مَن يقول: ﴿يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 56]، والجوابُ للجميع: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: 37].
ويا وَيحَ مَن يقول: ﴿وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ [الشعراء: 99- 103].
ويا لسعادة مَن: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30- 32]، ويا لفَوز مَن ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103].
معاشِر الإخوة:
وهذه أحوالُ بعض السلَف وما أُثِر عنهم في مثلِ هذه الساعات؛ فهذا سلمانُ الفارسيُّ - رضي الله عنه - فيما رواه أحمدُ والحاكمُ وابنُ ماجه -، لما مرِضَ خرجَ إليه سعدُ بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - من الكوفة يعُودُه، فوافقَه وهو في الموتِ يبكِي، فسلَّم وجلَس، فقال سعدٌ: ما يُبكِيك؟ ألا تذكُرُ صُحبةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ألا تذكُرُ المشاهِدَ الصالِحة؟ قال: "واللهِ ما يُبكِيني واحدٌ مِن اثنَين: لا أبكي حبًّا في الدنيا، ولا كراهيةَ لِقاءَ الله"، قال سعدٌ: فما يُبكِيك بعد ثمانِين؟ قال: "يُبكِيني أنَّ خلِيلِي عهِدَ إليَّ عهدًا فقال: «ليكُن بلاغُ أحدِكم من الدنيا كزادِ الراكب»، وإنَّا قد خشِينا أنَّا قد تعدَّينا!".
هذا هو سلمانُ - رضي الله عنه - يخشَى أن يكون قد تعدَّى، فماذا يقولُ مَن تعدَّى حقيقةً؟ ماذا يقولُ مَن تعدَّى على الأموالِ فنهَبَها، وتعدَّى على حدودِ الله فانتهَكَها، وتعدَّى على أعراضِ الناسِ ولحومِهم فنهَشَها، وتعدَّى على عقائِد الناس وأخلاقِهم فأفسَدَها؟
هذه هي المُحاسَبة: هل تعدَّى .. هل قصَّر .. هل بدَّل .. هل غيَّر؟!
وهذا عمرُو بن العاص - رضي الله عنه - جزِعَ جزعًا شديدًا عن الموت، فقال له ابنُه عبدُ الله: ما هذا الجَزَع؟ وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُدنِيك ويستعمِلُك، فقال: "أي بُنَيَّ! قد كان ذلك، وسأُخبِرُك، أي واللهِ ما أدرِي أحُبًّا كان أم تألُّفًا؟ ولكن أشهَدُ على رجُلَين أنَّه فارَقَ الدنيا وهو يُحبُّهما: ابنُ سُميَّة، وابنُ أم عبد".
فلما جُدَّ به - يعني: اشتدَّت عليه سكَراتُ الموت - وضعَ يدَه موضِع الأغلال مِن دقَنه، وقال: "اللهم أمَرتَنا فترَكنا، ونهَيتَنا فركِبنا، ولا يسَعُنا إلا مغفرتُك".
فكانت هذه كلماتُه - رضي الله عنه - وهو شديدُ الاحتِضار، حتى خرَجَت روحُه وفارَقَ الدنيا.
اللهم أمَرتَنا فترَكنا، ونهَيتَنا فركِبنا، ولا يسَعُنا إلا مغفرتُك.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذابِ الآخرة، اللهم اجعَلنا ممن يفرَحُ بلقائِك وينعَمُ بعفوِك وعطائِك، واجعَلنا من حزبِك وأوليائِك، اللهم هوِّن علينا سكَرات الموت، اللهم توفَّنا وأنت راضٍ عنَّا.
وأخبارُ القوم لا تنتهي، وكلُّ واحدةٍ أعجَبُ من أختها.
وبعدُ .. عباد الله:
وبعدُ .. أيها الأحياء! وبعدُ .. أيها الأصِحَّاء! أنتم تقدِرون على ما لا يقدِر عليه أهلُ القبور، فاغتنِمُوا الصحةَ والفراغَ قبل يوم الغرغرة، وقبل يوم الحساب؛ فكلُّ يومٍ يعيشُه المرءُ، بل كلُّ ساعةٍ يعيشُها هي غنيمةٌ، ومَن اتَّقَى اللهَ فيما بقِي، غفَرَ له ما قد مضَى وما قد بقِي، ومَن استعملَ صحَّتَه وفراغَه في الطاعة فهو المغبُوط، ومَن استعملَها في المعصِية فهو المغبُون. الفراغُ يعقبُه شغل، والصحةُ يعقُبُها سقَم.
أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ [القيامة: 26- 30].
نفَعَني اللهُ وإياكم بالقرآن العظيم، وبهَديِ مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين مِن كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، الحمدُ لله على ما منَحَ وأعطَى وهو الكريمُ الوهاب، أحمدُه - سبحانه - وأشكُرُه فهو واسعُ الفضل ومُجزِل الثواب، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له عليه توكَّلتُ وإليه متاب، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاء بالحقِّ والحكمة وفصل الخطاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه خيرِ آلٍ وأكرمِ أصحاب، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآب.
أما بعد .. أيها المُسلمون:
من معالِم العِظة والاتِّعاظ أن تعلَمُوا أنَّ الأعمال بالخواتيم، والسعيد مَن وُعِظ بغيره، وكل مُتعةٍ يعقبُها موت فهي هباء، ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء: 205- 207].
ومن معالِم العِظة - عباد الله -: أن يُدرِكَ المرءُ أنَّ الأيام خزائِن، وما مضَى فهو لا يعُود، ولا ذِكرى بغير إنابة، ولا انتِفاع بغير استِجابة.
وتأمَّلُوا هذه اللَّفتَة مِن الإمام الحافظ ابن القيِّم - رحمه الله -، فهو يقولُ: "فمَن كان مشغُولًا بالله وذِكرِه ومحبَّته وطاعتِه في حياتِه، وجَدَ ذلك أحوَجَ ما هو إليه عند خُروجِ رُوحِه، ومَن كان مشغُولًا بغيرِه في حياتِه وصُحبتِه، فيعسُرُ عليه اشتِغالُه بالله وحضورِه عند الموت".
ولا يثبُتُ إلا أهلُ الطاعة الصادِقُون الصابِرون؛ فهم لا تزيغُ قُلوبُهم ساعة الاحتِضار، ولا تنالُ منهم الشيطان شيئًا.
ألا فاتَّقُوا اللهَ - رحِمَكم الله -، واعلَمُوا أنَّ مما أوصَى به السلَفُ - رحمهم الله - عند الاحتِضار حُسنَ الظنِّ بالله، بأن يظنَّ بما يلِيقُ بالله - عزَّ وجل - وما تقتَضِيه أسماؤُه الحُسنى، وصِفاتُه العُليا، فيرجُو رحمةَ الله وفضلَه وعفوَه وإحسانَه وغُفرانَه وسَعةَ رحمته، ويكونُ ذلك حين يتحدَّثُ الذين حولَ هذا المُحتضَر عن محاسِن أعمالِه وجميلِ ما قدَّم مِن خيرٍ وفضلٍ، والحسرةُ لمَن لم يكن له محاسِن وفضائِل يرجُوها عند ربِّه.
وحُسنُ الظنِّ بالله هو أعلَى درجات التوكُّل، ولا يتوكَّلُ على الله حقَّ التوكُّل إلا مَن أحسَنَ الظنَّ به - سبحانه -.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على الرحمةِ المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّكُم مُحمدٍ رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيله، فقال - وهو الصادِقُ في قِيله - قولًا كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك: نبيِّنا مُحمدٍ الحبيبِ المُصطفى، والنبيِّ المُجتبَى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المُؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابةِ أجمعين، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك وإحسانِك يا أكرَمَ الأكرمين.

مقالات ذات صلة

تعليقات