بحث عن الوصل والفصل
ان العلم بمواقع الجمل،والوقوف على ماينبغي أن يصنع فيها من العطف والاستئناف والتهادي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها .أو تركها عند عدم الحاجة إليها صعب المسلك ، لايوفق للصواب فيه إلا من أوتي قسطا موفورا من البلاغة ،وطبع على إدراك محاسنها،ورزق حظا من المعرفة في ذوق الكلام ،وذلك لغموض هذا الباب ن ودقة مسلكه وعظيم خطره وكثير فائدته :يدل لهذا أنهم جعلوه حدا للبلاغة .
فقد سئل عنها بعض البلغاء ، فقال (معرفة الفصل والوصل).
تعريف الفصل والوصل في حدود البلاغة
الوصل: عطف جملة على أخرى بالواو - ،والفصل :ترك هذا العطف بين الجملتين ،والمجئ بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد الأخرى.
فالجملة الثانية تأتي في الأساليب البليغة مفصولة أحيانا ،وموصولة أحيانا. فمن الفصل , قوله تعالى : ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن )) فجملة (ادفع ) مفصولة عما قبلها ولو قيل ،وادفع بالتي هي أحسن لما كان بليغا .
ومن الوصل قوله تعالى (( ياأيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )) عطف جملة (وكونوا) على ماقبلها ولو قلت (اتقوا الله كونوا مع الصادقين)ماكان بليغا فكل من الفصل والوصل يجيء لأسباب بلاغية .ومن هذا يعلم أن :-
الوصل :- جمع وربط بين جملتين بـ(الواو) خاصة لصلة بينهما في الصورة والمعنى اولدفع اللبس .
والفصل :-ترك الربط بين الجملتين اما لأنهما متحدتان صورة ومعنى او بمنزلة المتحدتين ،و اما لانه واصلة بينهما في الصورة اوالمعنى .
بلاغة الوصل
لاتتحقق الا(بالواو)العاطفة فقط دون بقية حروف العطف؛لان (الواو)هي الاداة التي تخفى الحاجة اليها ويحتاج العطف بها الى لطف في الفهم ودقة في الادراك اذ لاتفيد الامجرد الربط وتشريك ما بعدها لما قبلها في الحكم نحو (مضى وقت الكسل وجاء زمن العمل,وقم واسع في الخير)بخلاف العطف بغير الواو فيفيد مع التشريك معاني اخرى كالترتيب مع التعقيب في (الفاء) وكالترتيب مع التراخي في (ثم) وهكذا باقي حروف العطف.
وشرط العطف (بالواو) ان يكون بين جملتين جامع مثل (الموافقة )في نحو(يقرا ويكتب)وكـــ(المضادة) في نحو(يضحك ويبكي)وانما كانت المضادة في حكم الموافقة لان الذهن يتصور احد الضدين عند تصور الآخر ف(العلم)يخطر على البال عند ذكر (الجهل)كما تخطر الكتابة عند ذكر (القراءة),(والجامع)يجب ان يكون باعتبار المسند اليه والمسند جميعا فلا يقال (خليل قادم والبعير ذاهب )لعدم الجامع بين المسند اليهما كما لا يقال 0سعيد عالم وخليل طويل )لعدم الجمع بين المسندين .
مواضع الوصل
الوصل:عطف جملة على أخرى بالواو ويقع في ثلاثة مواضع:-
الأول:-إذا اتحدت الجملتان في الخبرية والإنشائية لفظا ومعنى,أو معنى فقط ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما وكانت بينهما مناسبة تامة في المعنى,فمثال (الخبريتين )قوله تعلى(إن الأبرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم)فبين الجملتين حدث الوصل لان بينهما تناسبا في الفكر فإذا جرى في الذهن حال احد الفريقين تصور حال الفريق الآخر,ومثال (الإنشائيتين)قوله تعالى(فادع واستقم كما أمرت )وقوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا )وصل جملة (ولا تشركوا )بجملة (واعبدوا ) لاتحادهما في الإنشاء ولان المطلوب بهما مما يجب على الإنسان يؤديه لخالقه,ويختصه به.
ومن هذا النوع قول الشاعر :-
عالجوا الحكمة واستشفوا بها وانشدوا ما حل منها في السير
فقد وصل بين ثلاثة جمل ,تتناسب في إنها مما يتعلق بأمر ( الحكمة ) وبواجب (الشباب ) في طلبها والانتفاع بها.
ومثال (المختلفتين )كقوله تعالى (إني اشهد الله,واشهد أني برئ مما تشركون )(أي:إني اشهد الله وأشهدكم ) فتكون الجملة الثانية من هذه الآية إنشائية لفظا ولكنها خبرية في المعنى.ويكون هذا الغرض بلا نمي (التماشي) عند مساواة شهادتهم بشهادته تعالى عما يقولون ونحو (اذهب إلى فلان،وتقول له كذا ) فتكون الجملة الثانية من هذا المثال خبرية لفظا ولكنها إنشائية معنى (رأي : وقل له).
فالاختلاف في اللفظ ،لا في المعنى المعول عليه ،ولهذا( وجب الاتصال ) وعطف الجملة الثانية على الأولى لوجود الجامع بينهما ،ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما ،وكل من الجملتين لامو ضع لها من الإعراب .
الثاني:دفع التوهم غير المراد ،وذلك إذا (اختلفت ) الجملتان في الخبرية والإنشائية ،وكان الفصل يوهم خلاف المقصود كما تقول مجيبا لشخص بالنفي (لا – شفاه الله) لمن يسألك : هل برئ علي من المرض ؟؟ (فترك الواو ) يوهم السامع الدعاء عليه وهو خلاف المقصود ،لان الغرض الدعاء له ، ولهذا (وجب الوصل) وعطف (الجملة الثانية) الدعائية الإنشائية على( الجملة الأولى ) الخبرية المصورة بلفظ (لا) لدفع الإبهام، وكلتا الجملتين لامحل لها من الإعراب .
الثالث:إذا كان (للجملة الأولى) محل من الإعراب ،وقصد تشريك(الجملة الثانية )لها في الإعراب ومنه قول الشاعرابي العلاء المعري:-
وحب العيش اعبد كل حر وعلم ساغبا أكل المرار
والا حسن أن تتفق الجملتان في الاسمية والفعلية ، والفعلية في الماضية والمضارعة ، والاسمية في نوع المسند من حيث (الافراد – والجملة – والظرفية) ولا يحسن العدول عن ذلك الا لاغراض منها :
أ.حكاية الحالة الماضية ،واستحضار الصورة الغريبة في الذهن ، نحو ((ان اللذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ،ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون)).
ب.افادة التجدد في احداهما والثبوت في الاخرى ،نحو (الصديق يكا تبني وانا مقيم على وده) وذلك لان الدلالة على التجدد تكون بالجملة الفعلية ، وعلى الثبات في الجملة الاسمية ،ومثل هذا يحصل عند ارادة المضي في احداهما والمضارعة في الاخرى .
مواضع الفصل
احيانا تتقارب الجمل في معناها تقاربا تاما ، حتى تكون الجملة الثانية كأنها الجملة الاولى ، وقد تنقطع الصلة بينهما .
اما لاختلافهما في الصورة ،كأن تكون احدى الجملتين انشائية والاخرى خبرية واما لتباعد معناهما بحيث لا يكون بين المعنيين مناسبة,وفي هذه الاحوال .يجب الفصل في كل موضع من المواضع الخمسة الاتية :-
الموضع الاول : ((كمال الاتصال))
:وهو اتحاد الجملتين اتحادا تاما وامتزاجا معنويا – بحيث تنزل الثانية من الاولى المنزلة نفسها ، وذلك:-
أ.بان تكون الجملة الثانية بمنزلة البدل من الجملة الاولى ،نحو قوله تعالى((واتقوا الذي امدكم بما تعملون امدكم بانعام وبنين )).
ب.او بان تكون الجملة الثانية بيانا لابهام في الجملة الاولى كقوله سبحانه :-
((فوسوس اليه الشيطان قال يا ادم هل ادلك على شجرة الخلد) فجملة (قال ياادم) بيان لما وسوس به الشيطان اليه
ج.او ، بان تكون الجملة الثانية مؤكدة للجملة الاولى ، بما يشبه بان يكون توكيدا لفظيا او معنويا كقوله عز وجل: ((فمهل الكافرين امهلهم رويدا )) .
الموضع الثاني : (كمال الانقطاع) :
وهو اختلاف الجملتين اختلافا تاما وذلك :-
أ.بان يختلف خبرا وانشاءا :لفظا ومعنا، او معنى فقط ،نحو (حضر الامير حفظه الله)،ونحو (تكلم اني مصغ اليك) وكقول الشاعر :
وقال رائدهم ارسوا نزاولها فحتف كل امرء يجري بمقدار
فالمانع من العطف في هذا الموضع امر ذاتي لايمكن دفعه اصلا,وهو كون احداهما جملة خبرية, والاخرى انشائية ولاجامع بينهما.
ب)أو :بألا تكون بين الجملتين مناسبة في المعنى ولا ارتباط,بل كل منها مستقل بنفسه كقولك(علي كاتب ,الحمام طائر)فانه لامناسبة بين كتابة علي وطيران الحمام ,وكقول الشاعر:-
انما المرء باصغريه كل امرئ رهن بما لديه
فالمانع من العطف في هذا الموضع (امر ذاتي)لايمكن دفعه اصلا وهو التباين بين الجملتين, ولهذا :وجب الفصل ,وترك العطف ,لان العطف يكون للربط ,ولا ربط بين الجملتين في شدة التباعد وكمال الانقطاع.
الموضع الثالث:- شبه كمال الاتصال:-
وهو كون الجملة الثانية قوية الارتباط بالأولى,لوقوعها جوابا عن سؤال يفهم من الجملة الاولى فتفصل عنها كما يفصل الجواب عن السؤال_كقوله سبحانه:-
((وما ابرئ نفسي ان النفس لأمارة بالسوء))فالجملة الثانية شديدة الارتباط بالجملة الاؤلى لانها جواب عن سؤال نشأ عن الاولى(لم لا تبرئ نفسك؟؟فقال (ان النفس لأمارة بالسوء)فهذه الرابطة قوية بين الجملتين مانعة من العطف,فأشبهت حالة اتحاد الجملتين وبذلك ظهر الفرق بين كمال الاتصال .ونحو قول الشاعر:-
ونحو :-السيف اصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فكأنه استفهم,وقال :لم كان السيف اصدق؟؟فأجاب بقوله في حده.....الخ.
فالمانع من العطف في هذا الموضع وجود الرابطة القوية بين الجملتين فأشبهت حالة اتحاد الجملتين وبهذا (وجب الفصل ).
الموضع الرابع:- شبه كمال الانقطاع:-
وهو ان سبق جملة بجملتين يصح عطفها على الاولى لوجود مناسبة ولكن في عطفها على الثانية فساد في المعنى فيترك العطف بالمرة: دنسا لتوهم انه معطوف على الثانية .نحو:
وتظن سلمى أنني ابغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
فجملة( أراها )يصح عطفها على جملة (تظن)لكن يمنع من هذا توهم العطف على جملة (أبغى بها)ا فتكون الجملة الثالثة من مظنونات (سلمى) مع انه غير المقصود ولهذا امتنع العطف بتاتا (ووجب الفصل ) ,و المانع من العطف في هذا الموضع (امر خارجي احتمالي )يمكن دفعه بمعونة قرينه _ومن هذا_يفهم الفرق بين كل من (كمال الانقطاع وشبه كمال الانقطاع).
الموضع الخامس:- التوسط بين الكمالين مع قيام المانع :-
وهو كون الجملتين متناسبتين وبينهما رابطة قوية ولكن يمنع من العطف مانع , وهو عدم التشريك في الحكم , كقوله تعالى :-
((وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا أنا معكم انما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ))
فجملة( يستهزئ بهم ) لا يصح عطفها على جملة (انا معكم)لاقتضائه انه من مقول المنافقين : والحال انه من مقوله تعالى ((دعاء عليهم))ولا على جملة (قالوا)لئلا يتوهم مشاركته في التقييد بالظرف _وان استهزاء الله بهم مقيد بحال خلوهم الى شياطينهم, والواقع ان استهزاءا لله بالمنافقين غير مقيد بحال من الاحوال ولهذا (وجب الفصل ).
تعليقات
إرسال تعليق